سورة التوبة - تفسير التفسير الوسيط

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)} [التوبة: 9/ 30- 33].
أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم سلّام بن مشكم، ونعمان بن أبي أوفى، وشاس بن قيس، ومالك بن الصيف، فقالوا: كيف نتّبعك وقد تركت قبلتنا؟ وأنت لا تزعم أن عزيرا: ابن اللّه، فأنزل اللّه في ذلك: {وَقالَتِ الْيَهُودُ} الآية.
وقال النقّاش: لم يبق يهودي يقولها بل انقرضوا.
كان بعض اليهود يقول: عزير: ابن اللّه، لأنه يعدّ ناشر اليهودية، بعد أن نسيت، فقدسه اليهود ووصفوه بأنه: ابن اللّه. وقالت النصارى: المسيح: ابن اللّه، واتفقوا على أن الموحد ليس نصرانيا، وليس لقولهم أي دليل ولا برهان غير ما قرره أحبارهم، يشبهون بهذا الاعتقاد قول الذين كفروا من قبلهم من الأمم، ضلّوا كما ضل هؤلاء، وهم الوثنيون البراهمة والبوذيون في الهند والصين واليابان، وقدماء الفرس والمصريين واليونان والرومان، كما أن مشركي العرب كانوا يقولون: الملائكة بنات اللّه. لعنهم اللّه، كيف يصرفون عن الحق، وهو توحيد اللّه وتنزيهه إلى غيره، وهو الشرك الباطل، فما المسيح وعزير إلا مخلوقان عبدان لله، ولا يعقل أن يكون المخلوق خالقا، وهو كسائر المخلوقات يأكل ويشرب ويتعب ويألم، وقدراته محدودة، وكيف يصرفون عن الحق إلى غيره مع قيام الدليل؟
ووجه مضاهاة من كفروا قبلهم أنهم اتخذوا رؤساء الدين فيهم أربابا من دون اللّه، يقومون بحق التشريع، فيحلّون الحرام، ويحرمون الحلال، ويطيعونهم في ذلك، تاركين حكم اللّه تعالى. واتباعهم في التحليل والتحريم: عبادة لهم وتعظيم.
والحال أنهم ما أمروا إلا أن يعبدوا إلها واحدا على لسان موسى وعيسى، وهو اللّه الذي شرع لهم أحكام الدين، وهو ربهم ورب كل شيء فهو الذي إذا حرّم الشيء فهو الحرام، وما حلّله فهو الحلال، وما شرعه اتّبع، وما حكم به نفذ. إنه اللّه تعالى الإله وحده شرعا وعقلا، لا يوجد إله غيره، وتنزه وتقدس عن الشركاء والنظراء والأعوان والأضداد والأولاد، لا إله إلا هو بحق، ولا رب سواه في الواقع ومقتضى العدل.
ولكن هؤلاء المشركين والكتابيين يريدون أن يطفئوا نور الإسلام، الذي بعث اللّه به رسوله محمدا، فيضل الناس أجمعون، ويأبى اللّه إلا أن يتم نوره بتثبيته وحفظه والعناية به وإكماله وإتمامه، ولو كره الجاحدون ذلك بعد تمامه، كما كرهوه حين بدء ظهوره. والجاحد الكافر: هو الذي يستر الشيء ويغطيه.
وأما النور الإسلامي فهو الذي أرسل اللّه به رسوله بالهدى ودين الحق الذي لا يغيّره ولا يبطله شيء آخر، وهو هدى اللّه الصادر عن القرآن والشرع المثبت في قلوب الناس، والهدى: هو ما جاء به من الإخبارات الصادقة والإيمان الصحيح والعلم النافع. ودين الحق: هو الأعمال الصحيحة النافعة في الدنيا والآخرة. واللّه تعالى يريد إعلاء دين الحق على جميع الأديان، ولو كره المشركون ذلك الإظهار، وقد تحقق وعد اللّه ونصره، كما ثبت في الصحيح عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «إن اللّه زوي لي الأرض مشارقها ومغاربها، وسيبلغ ملك أمتي ما زري لي منها».
وإذا كانت اليهودية توصف بالتعصب والانغلاق، والمسيحية بالتسامح والمحبة، فإن أدق وصف يوصف به الإسلام أنه دين الحق والعدل والميزان، الذي لا يتجاوز الواقع، ويوجب الاعتدال في الأمور، والتزام الإنصاف في العقيدة والشريعة والمنهج الأخلاقي والسلوكي.
يتبين مما ذكر أن اللّه تعالى أراد أن يستمر حبل الرسالات الإلهية ويظل موصولا في البشر، قبل ختم النبوات برسالة خاتم النبيين والمرسلين محمد بن عبد اللّه، عليهم صلوات اللّه وسلامه، واستمرار هذا الخير من أجل الإنسان ووحدة الإنسانية، لا للتفرق والاختلاف والتمزق والانقسام.
وتتجسد وحدة الأديان في الدعوة إلى الاعتقاد برب واحد لا شريك له، وبالإيمان بعالم الآخرة بما فيه من حشر ونشر وحساب وميزان وصراط وجنة ونار وثواب وعقاب، وبالدعوة إلى أصول الفضائل والأخلاق الكريمة، وتصحيح مسيرة الحياة الإنسانية، القائمة على الحق والصدق والعدل والوفاء والمساواة والحرية والتضامن والتعاون بين البشر، مع مقاومة كل أسباب الاضطراب والقلق واهتزاز الثقة بسبب الاعتداء على الحقوق وأكل أموال الناس بالباطل والكذب والخيانة والغدر والتفرقة وحرمان الناس من التعبير عن آرائهم ورغباتهم، ضمن أصول النظام الإلهي والعدل الرباني.
وإن التلاعب بالأديان جريمة لا تغتفر، وتحريف النصوص عن المراد بها خيانة للأجيال، لذا يتبوأ المحرّفون والقادة المضللون مكانا عظيما من نار جهنم بسب إساءتهم لغيرهم، ومحاولتهم تفريق الناس وصرفهم عن صراط الهداية الربانية الحميد.
ومع هذا التضليل الموروث لن يعفى العقلاء المفكرون من التبصر والتأمل ودراسة أصول الدين والحق والاعتقاد الصحيح، وإذا لم يفعلوا لن يكونوا بمنجاة من العقاب أو العذاب في الآخرة لإهمالهم نعمة العقل التي تبصّرهم بمدى صدق الموروثات وأصالة الاعتقادات المنقولة، دون تفكر بمصداقيتها.
مسئولية رجال الدين:
إن دور القيادة أمر خطير في تاريخ البشرية، وإن مسئولية رجال العقيدة والفكر والأخلاق والسلوك هي أشد خطرا في التاريخ من أي شيء سواها، فكان لزاما على القادة والمفكرين ورجال الدين أن يكونوا أمناء على عقيدة الأجيال وفكر البشرية، فلا يقررون لهم إلا الحق، ولا يلقنونهم إلا الأصل الإلهي الصحيح الذي أراده اللّه هدى لعباده، ومنهجا لخلقه، وميزانا للحياة السوية. لذا شنّع القرآن الكريم على قادة الفكر المنحرف ورجال الدين المضللين، فقال اللّه تعالى:


{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)} [التوبة: 9/ 34- 35].
قال الواحدي: نزلت (آية الأحبار) في العلماء والقرّاء من أهل الكتاب، كانوا يأخذون الرشا من سفلتهم، وهي المأكل الذي كانوا يصيبونه من عوامهم. وآية كنز الذهب والفضة هي- كما قال الضحاك- عامة في أهل الكتاب والمسلمين.
والمراد بالآية: بيان نقائص هؤلاء الأحبار، ونهي المؤمنين عن تلك النقائص.
والمعنى: يا أيها المؤمنون بالله ورسوله، اعلموا أن كثيرا من الأحبار والرهبان ليأخذون أموال الناس بالباطل، أي من أتباعهم بصفة ضرائب وفروض لدور العبادة، يوهمونهم أن النفقة في ذلك من الشرع والتزلف إلى اللّه، ولكنهم يضمونها إلى جيوبهم، وقد يأخذون الرشاوى في الأحكام القضائية، ويأكلون الربا وهو محرم عليهم، ويأخذون الهدايا والنذور والأوقاف المخصصة لقبور الأنبياء والصالحين، وقد يستحل بعضهم أموال كل من عداهم من أتباع الأديان الأخرى، ولو بالخيانة أو السرقة، وكل ذلك أكل لأموال الناس بالباطل وسحت حرام.
وقد يضم هؤلاء الأحبار إلى قبائحهم صد الناس ومنعهم عن اتباع الدين الحق، إما بتكذيب رسالة الإسلام، أو بالطعن بالقرآن الكريم أو بالنبي صلّى اللّه عليه وسلم.
وهناك صفة عامة عند هؤلاء القادة وعند غيرهم من المسلمين: وهي البخل الشديد ومنع أداء حقوق اللّه في أموالهم، فيكنزون في بيوتهم الذهب والفضة، أي يجمعون المال ويدخرونه، ولا يؤدون منه الحقوق الواجبة شرعا كالزكاة، ولا ينفقون منه في سبيل اللّه، فيستحقون العذاب الشديد المؤلم في نار جهنم، وعبر عن الوعيد بهذا العذاب بلفظ البشارة على سبيل التهكم والتهديد.
ومن المقرر شرعا: أن الكنز: هو المال الذي لا تؤدى زكاته، وإن كان ظاهرا غير مخفي، وأما المال المدفون إذا أخرجت زكاته فليس بكنز، لما أخرجه ابن عدي والخطيب عن جابر رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «أيّ مال أدّيت زكاته، فليس بكنز».
ويوضح ذلك الآية الكريمة: {خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِها} [التوبة: 9/ 103] فإن الذم في منع الزكاة فقط، لا في مجرد حبس المال وادخاره. ثم هدد اللّه تعالى الكانزين وأخبرهم بنوع العذاب الذي يتعرضون له في الآخرة، وهو أنه يحمى على ما جمعوه من الأموال المكنوزة غير المزكاة في النار، أي توضع فيها ويوقد عليها حتى تحمى، ثم يحرق بها جباههم وجنوبهم وظهورهم، أي جميع أجسادهم ويقال لهم من قبل الملائكة: هذا جزاء ما كنزتم، فذوقوا وبال ما كنزتم لأنفسكم، أي إن ما توهمتم فيه نفعا أصبح ضررا محضا، ووبالا شديدا عليكم.
روى مسلم في صحيحة عن أبي هريرة رضي اللّه عنه: أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له يوم القيامة صفائح من نار، فيكوى بها جنبه وجبهته وظهره، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار».
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة أيضا قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم: «من آتاه اللّه مالا، فلم يؤد زكاته، مثّل له يوم القيامة شجاعا أقرع، له زبيبتان يطوّقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه، ثم يقول له: أنا مالك، أنا كنزك»، ثم تلا: {سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ} [آل عمران: 3/ 180].
والخلاصة: إن من أعظم الجرائم الاجتماعية أكل أموال الناس بالباطل كالرشاوى والغصوبات وخيانة الأمانات، والصدّ عن دين اللّه الحق المتمثل في القرآن، واكتناز المال أو ادخاره وحبسه من غير إنفاق ولا أداء زكاة عنه.
تلاعب العرب بالأشهر:
إذا كان الناس يسيرون في دروب حياتهم بمقتضى أهوائهم وشهواتهم، وبمحض عقولهم وآرائهم الشاذة، فلا يستغرب عنهم الوقوع في غرائب الأفكار، والخروج عن الأعراف العامة، وهذا ما أوقع ذوي العقلية البدائية في الجاهلية العربية في مهاوي الانحراف والعبث بالقيم الإنسانية، بل تغيير حركة الزمان ونظامه، وهذا هو النسيء في الجاهلية أي تأخير حرمة الأشهر الحرم إلى وقت آخر حسبما يروق لهم وينسجم مع مصالحهم في الاستمرار في الحروب ودوام الاقتتال والمنازعات، لذا شنع القرآن الكريم على أولئك العابثين بنظام الشهور في قول اللّه تعالى:


{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37)} [التوبة: 9/ 36- 37].
أخرج ابن جرير الطبري عن أبي مالك- لبيان سبب نزول الآية- قال: كانوا يجعلون السنة ثلاثة عشر شهرا، فيجعلون المحرم صفر، فيستحلون فيه المحرمات، فأنزل اللّه: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ} هاتان الآيتان تتضمنان ما كانت العرب شرعته في جاهليتها من تحريم شهور الحل، وتحليل شهور الحرمة. والذي أكدته الروايات أن العرب كانت لا عيش لأكثرها إلا من الغارات وإعمال سلاحها، فكانوا إذا توالت عليهم حرمة ذي القعدة وذي الحجة والمحرم، صعب عليهم ووقعوا في مشكلة الفقر، فيتواطئون على إنساء شهر، أي تأخير حرمة المحرم وجعله في صفر، ليكون لديهم فاصل زمني للغارات، فيحلون المحرم ويغيرون فيه بقصد المعيشة، ثم يلتزمون حرمة شهر آخر وهو صفر، ثم يسمون ربيعا الأول صفرا، وربيعا الثاني ربيعا الأول، وهكذا في سائر الشهور، يستقبلون سنتهم من المحرم الموضوع لهم، فيسقط على هذا حكم المحرم الذي حلّل لهم، وتصبح السنة ثلاثة عشر شهرا أولها المحرم المحلل، ثم المحرم المصطنع وهو صفر، ثم إتمام السنة على هذا النحو المغيّر. ففي هذا العبث والتلاعب بالأشهر نزلت هاتان الآيتان.
أخبر اللّه سبحانه أن عدد أشهر السنة القمرية في كتاب اللّه أي في نظامه وحكمه التشريعي اثنا عشر شهرا، لسهولة الحساب بها، وتوقفها على رؤية الهلال، فإن كل إنسان متعلم أو غير متعلم، بدوي أو حضري، يراه ويراقب تحركاته بسهولة، وذلك منذ بدء خلق السماوات والأرض وإلى كل زمان، ومن تلك الأشهر أربعة حرم:
ثلاثة سرد وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، وواحد فرد وهو رجب، أي ذات حرمة وتعظيم تتميز به عن بقية الشهور، فلم يكن يحل فيها القتال وسفك الدماء.
وتحريم هذه الأشهر الأربعة في السنة هو الدين القيم، أي الدين والشرع المستقيم دين إبراهيم الخليل وإسماعيل الذبيح، فلا يجوز نقل تحريم المحرم إلى صفر، خلافا لما كان أهل الجاهلية يفعلون، من تقديم بعض أسماء الشهور وتأخير البعض. فلا تظلموا أيها الناس أنفسكم في تلك الأشهر الأربعة، باستحلال حرامها، فإن اللّه عظّمها، والمراد بذلك النهي عن جميع المعاصي بسبب ما لهذه الأشهر من تعظيم الثواب والعقاب فيها، كما قال تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدالَ فِي الْحَجِّ} [البقرة: 2/ 197]. والمعاصي وإن كانت حراما في غير الأشهر الحرم أيضا، إلا أنه أكد اللّه تعالى فيها المنع زيادة في شرفها، ثم أباح اللّه تعالى قتال المشركين المعتدين في جميع الأشهر، حتى الأشهر الحرم، وعلى المؤمنين قتالهم مجتمعين موحّدين، كما يقاتلون المسلمين على هذا النحو، واعلموا أن اللّه مع المتقين. ومعنى الآية: الحض على قتال المشركين صفا واحدا وعلى قلب رجل واحد.
والنسيء وهو تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر لا حرمة له: زيادة في الكفر أي جار مع كفرهم بالله، وخلاف منهم للحق، وزيادة في أصل كفرهم القائم على الشرك وعبادة الأصنام، وتغيير لملة إبراهيم بسوء التأويل، يوقع أهل النسيء الذين كفروا في ضلال، زيادة على ضلالهم القديم، يحلون المحرم عاما، ويحرمونه عاما آخر، ليوافقوا في مجرد العدد الأربعة الأشهر الحرم، حسّن الشيطان لهم أعمالهم السيئة، فظنوا ما كان سيئا حسنا، وتوهموا شبهتهم الباطلة أنها صواب، واللّه لا يوفق ولا يرشد القوم الضالين المنحرفين الذين يختارون السيئات، إلى الحكمة والخير والصواب وفهم حكمة الشرع.
وتم تصحيح وضع الأشهر بحسب الواقع في عصر النبي صلّى اللّه عليه وسلم، فقال هذا النبي فيما رواه البخاري وأحمد وغيرهما: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السماوات الأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان».
التحريض على الجهاد ومعجزة الهجرة:
لا يمكن لأمة الدعوة الإسلامية إلى العالم قاطبة أن تتخلى عن اتخاذ كل أسباب القوة والعزة، ولا أن تترك الجهاد في سبيل اللّه لأنها بسبب نشر دعوة الإسلام بين الناس لابد أن يتعرض فيها الدعاة المؤمنون وأمتهم التي تساندهم للاعتداء والصد عن سبيل اللّه، والكيد والقمع والطرد والقتل، فتحتاج هذه الأمة لدفع الظلم ورد العدوان، لذا حرّض القرآن الكريم على الجهاد الخالص لله تعالى، وأعلم المؤمنين أن اللّه ينصر عباده المستضعفين المعتدى عليهم، كما نصر اللّه نبيه في ليلة الهجرة حين اختبأ مع صاحبه أبي بكر في غار جبل ثور، فقال اللّه تعالى:

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8